كتب: صلاح صيام
يرحل الجسد وتبقى الأعمال الخالدة التي تضيف حياة أخرى إلى صاحبها، وعبّاس محمود العقاد (1889-1964) يعد واحدًا من ألمع نجوم الفكر والأدب في مصر كاتبًا كبيرا وشاعرًا وفيلسوفا وسياسيًا ومؤرخًا وصحفيًا، وقد مثَّل حالة فريدة فى الأدب العربى الحديث..
ومنذ أيام حلت الذكرى الرابعة والعشرين بعد المائة على ميلاده، وبهذه المناسبة نتذكرمحطات مهمة فى حياته الحافلة بكل أنواع الفنون الأدبية، ونستعيد حديثًا لأخيه الذي تضمن الكثير من المفاجآت، علها تكون فرصة تعلم للأجيال الحالية.
فى عام 1960 أي قبل رحيله بأربع سنوات فقط، أجرت مجلة “آخر ساعة” حوارًا مع شقيقه أحمد العقاد، كشف فيه الكثير من التفاصيل الخافية عن حياة أخيه الأديب العملاق الذى ملأ الدنيا بأدبه، وتطرّق إلى ملامح غائبة عن طفولته ومواقف مجهولة فى مرحلة شبابه.
تكلم أخاه أحمد العقاد بصراحة عن أخيه العملاق الكبير، وروى ذكريات طفولته حيث قال: كان دائمًا يرفض لعب “الكرة الشراب” ويفضل أن يجلس ليقرأ، وكان يوفر كل مصروفه الذي يحصل عليه ويذهب للشيخ عثمان خليل صاحب أكبر مكتبة في أسوان ليشتري به الكتب الكبيرة، وقرأ في طفولته سلسلة «ألف ليلة وليلة» و«المستطرف في كل فن مستطرف”، كما قرأ كتابًا عن “المعري” ولم يكن عمره وقتذاك يتجاوز التاسعة.
ومضى شقيق العقاد يقول: “كان والدي -رحمه الله- يصطحبه معه إلى مجالس الأدباء والشعراء في أسوان، وبالذات إلى الندوة التي كان يعقدها الشيخ أحمد الجداوي القاضي، وكان عالمًا كبيرًا من علماء الدين والأدب، في تلك الجلسات كان أخي يطارح كبار روادها في الأدب والشعر، ولعل ذلك هو الذي صبغ كتابته بالقسوة التي عُرفت عن قلمه حين يهاجم أو يرد على هجوم، كان يسهر في منزلنا الليالي الطوال يقرأ ويحفظ الآلاف من أبيات الشعر، ليتمكن من الرد في سرعة على الأبيات التي كان يلقيها الشيخ الجداوي أو غيره في الجلسات الشعرية التي اشتهر بها أهل زمانه.
وتناول الحديث كبرياء العقاد وكيف انتقلت إليه بالوراثة، فقال: “أعتقد أن كبرياء أخي مردها إلى أن أسرتنا قد توارثتها، فإن أي فرد فيها لا يحب أن يكون ذيلًا لأحد ولا يتحمل إهانة من أحد، وهذه الكبرياء منتشرة فى معظم أهل الصعيد، وفي أسوان بالذات”.
وروى أحمد العقاد هذه القصة عن أخيه: «مرة حمل مسدسه وهو كاتب في خزان أسوان، وذهب إلى مكتبه ليقتل رئيسه الإنجليزي، لأنه كان قد اتهمه بالإهمال في العمل، وحاول إهانته أمام بعض الموظفين، وكادت الكارثة تقع لولا أن تدخل بعض المهندسين والعمَّال الذين كانوا يعملون هناك في ذلك الوقت، وقد استقال أخي بعد ذلك على الفور، وكان هذا آخر عهده بالوظيفة التى هجرها إلى الأبد لينصرف إلى القراءة طول النهار والليل، وكثيرًا ما كان والدى يدخل عليه لينصحه بالراحة رحمة بصحته.
وتابع: “كان أخي على علاقة طيبة جدًا بوالديه، فلا أذكر مرة أنه عارض لهما رأيًا، وبعد أن تُوفى الوالد فى سنة 1907 لم تنقطع زيارة أخي لوالدتنا، وحينما كان يبنى لها منزلًا في أسوان وكلفنى بالإشراف على البناء، طلبت منى الوالدة -فى أثناء عملية البناء- أن يكون بلاط حجرتها من الطوب الأحمر، وبعثت لأخي في مصر (القاهرة) أنبئه بهذه الرغبة وأبدي له مخاوفي من أن ذلك سيشوه منظر البيت، فما كان منه إلا أن بعث لي بخطاب عاجل يقول لى فيه: “أطع أمر والدتنا حتى لو أدى هذا إلى تشويه منظر البيت”.
وعن سر امتناعه عن الزواج قال أخوه: “أعتقد أن ذلك يرجع إلى انشغاله الشديد بمشروعاته الأدبية في الصغر، ولما كبر لم يجد من تقدر حياته كأديب، وهب كل حياته للبحث والاطلاع، وكانت والدتنا آخر من تكلم معه في هذا الموضوع، وأذكر أنها طلبت منه قبل وفاتها أن تفرح بزواجه، وأنه يومها قال لها: “إننى أقبل”, وفرحت الوالدة فرحًا شديدًا، ولكنه قال لها مداعبًا: “ولكن على شرط واحد: أن أبحث لك أولًا عن عريس!”، وصمتت الوالدة وقررت ـ منذ ذلك الوقت ـ ألا تفاتحه فى هذا الموضوع مرة أخرى.
ونستكمل فى الحلقة القادمة