يقولون أنها بيوت قديمة ، وتارة شاهدة على جداريات الزمن الجميل.يسردون الأبجدية حنينا وموروثا شعبيا ، ونبضات من هنا وهناك تنطق شجنا وحسرة على اندثار ثوابت تألق بها الوجدان الشعبى زمنا طويلا ، وخلف تلك الجدران العتيقة ورمزيتها التى لم تمحى شروخها ..أحيانا فى مظهرها الخارجى وأخرى مابين تلك الغرف القابعة داخلها ، تتسع الحكايات ولقاءات العائلة الحميمية والجيران ممزوجا بخطى تحبو فى حنين مابين بيت وبيت ، ومناسبات يشدو فيها الصفاء الممتد موصولا بالمحبة وعلاقات اجتماعية تشعرها وكأنها حبل وريد ممدود مابين حارة وزقاق .
حتى سواتر الطوب الأحمر أمام مداخل البيوت لم تحجب تلك المنظومة الانسانية ، ولا المنافذ الزجاجية الملونة بالطلاء الأزرق الزهرى كى تحجب الضوء حين تنطلق صفارات الانذار اعلانا عن غارة جوية للعدو الصهيونى اثناء حرب 1967، لم تميز تلك العلاقات والشواهد مابين أم فؤاد أو أسطى حسين النجار أو النقيب سامى الشحرى فى حارة الكرمانى والذى استشهد فى حرب الاستنزاف ضد العدو الصهيونى عام 1969،
وتختلط الجموع انطلاقا من كل حارة وشارع بحى السيدة زينب متجهة لمبنى البرلمان القابع بمنطقة ضريح سعد زغلول تحمل فى طياتها الأمل والهتاف لجمال عبد الناصر زعيم الأمة ..لاتتنحى ..حانحارب ..، أبواب البيوت انفتحت على مصراعيها ومعها رصيد من عطاء ” ناصر ” مصراعيها لهم ، ومستوصف السيدة زينب ووحدة الحوض المرصود العلاجية لأمراض الجلد ، ووحدة الصحة التى يرتادها تلامذة المدارس الابتدائية بالحى ومكاتب الرعاية الاجتماعية ، وعمال مطابع مؤسسة دار الهلال بشارع المبتديان بمعاطفهم الزرقاء ورائحة رصاص المطبعة تنتشر من المنافذ الحديدية بمبنى الدار ، وعمال مطاحن عبد المجيد بك الرمالى بشارع السد ..ومثقفى الحى ، واحتفالات عيد العمال حين تمر مواكب الزهور بالحى وسيارات كل منها تعبر عن احدى شركات القطاع العام الحديد والصلب ، الأسمنت ، النصر للسيارات ، النقل الخفيف ، غزل المحلة ،الزيوت والصابون بطنطا ، غزل شبين الكوم ، كروم جناكليس ، قها وادفينا ، سكر الحوامدية ، سكر كوم أمبو ، وغيرهم كثير.
ونحن نصطف على كل مداخل الحارات بالحى انتظارا لهذا الموكب ، بل للمشروع القومى الذى شيده الزعيم للجماهير ، ولكن كان هناك موكبا أخر يؤكد ميثاقا شعبيا سياسيا اجتماعيا حين يجىء ” عبد الناصر “مارا بسيارته المكشوفة وعليها أعضاء مجلس قبادة الثورة ، والمشهد يحكى قصة شعب عاش فرح العدالة الاجتماعية والحقوق العمالية ، لم تهتز تلك الجدران العتيقة ولاساكنيها بل كانت صروح الوجدان الوطنى الانسانى ودعائم الثبات على الارض مغموسة بحنين لكل حجر فى تلك البنايات .
والفجر حين يأتى وتشدو مأذنة مسجد السيدة زينب صوت الشخ عبد الفتاح الشعشاعى مصحوبا بدعوات سكان الحى رضاءا بالمقسوم والامان الاجتماعى الذى احاط بهم طوال يومهم ، وتظل الأعتاب نبراسا لمريدى ” أم هاشم ” واصوات المتيمين بالمقام من المجاذيب ..مدد مدد ..ياأم هاشم ، مدد ياأم العواجز ..ويتراقص القنديل المعلق بجوار الضريح يحيطه دخان البخور من قنينة نحاسية فى يد أحد الزوار
، وصوت الساقى الذى يحمل قربة الماء على ظهره ممزوجا بماء الورد ..ميه ياعطشان اشرب ، وصوت الترام الأصفر يمر فوق القضبان الحديدية مارا بالميدان أمام المسجد متجها لميدان أبو الريش ، وعم ” رفاعى ” بائع الشاى جاسا على رصيف ملاصق لسبيل أثرى بمدخل حارة ” منج ” حاملا براد شاى كبير وصينية بها اكواب ..
ملحمة ترددها قلوب نقية ،
صمدت أمام اوجاع الزمن وتخطت المحن وتوحدت أمام العدو ، قانعون بتلك الجدران المشروخة وفى طياتها كل قيمة وهدف وطنى عام ..تلك البنايات أصبحت مرثية وفى طى الذاكرة بفعل رأسمالية طاغية ، وأدوات التغريب التى اصابت العقول والسلوكيات بالعطن والذاتية المطلقة .
فترى الآن أبراجا شُيدت وبنايات فاخرة ..الشروخ ليست بها ، بل فى ساكنيها ومشيديها ،واحتوى الفراغ كل حارة وشارع وزقاق ، فلم تعد حارة ” السد ” مانعا من التغيير ، بل شاهدة على انهيار الجدار العازل مابين زمن المعنى والانسان ..أثرا ربما يرتاده يوما ساكنى البيوت الخرسانية العالية كى يلقوا نظرة على تلك الشروخ ، ويسدل التاريخ ستائره على أيقونة من شرفات البيوت المشروخة ..ربما تكون قنديلا لكل عابر سبيل …