الحكم على تقوى البعض ودرجة إيمانهم بالله من خلال رصد المظهر الخارجي لهم، أو من خلال تتبع أسلوب حياتهم، أو حتى من خلال الاستماع لبعض أحاديثهم العابرة؛ يعد جرأة كبيرة على الله تعالى، إنه تدخل صارخ وصريح في طبيعة العلاقة التي تجمع بين العبد وربه. لطفًا، فأنا لا أدعو إلى الرضا بمخالفة أو تفريط فيما أمرنا الله به سبحانه وتعالى، إنما حديثي جاء في محاولة لتفسير ظاهرة غريبة تنتشر في الوقت الحالي داخل مجتمعنا بانتشار النار في الهشيم، أرى الأمر من وجهة نظري وربما من وجهة نظر الكثيرين قد زاد عن حده وأصبح ينذر بخطر كبير، خطر على وشك الشرود بعيدًا وتجاوز كل الحدود، فهؤلاء يوزعون أماكن البشر ومكانتهم في ملكوت الله بحسب هوى أنفسهم وكما يريدون، يصفونهم بالأخيار أو الأشرار، وهذا في الحقيقة سلوك مذموم، مكروه ومرفوض.
توقع مكانة العبد من مثيله ومحاسبته على قوله أو عمله جرم عظيم، وذنب كبير، من نحن حتى نحكم على بعضنا البعض في مجمل أعمالنا أو في بعضها، وقد يصل الأمر بهم إلى التنبؤ بالخواتيم؟
من نحن حتى نقوم بتوزيع المقاعد والأماكن في ملكوت السماوات إلى جنة نعيم أو إلى نار جحيم؟
من منحنا الحق في مناصفة رب الوجود في حكمه، والتدخل بحكمته سبحانه التواب، الغفار، الرحيم.
شاعت هذه الفكرة وانتشرت فأصبح الأخ ينصب ميزان الحساب لأخيه دون خوف من عقاب، أي فكر عقيم هذا الذي يسوق الإنسان لمصير مجهول و محتوم من وجهة نظره وهو الذي صنعه وشيده بيده؟ تعالوا نقارن بين عصرنا الذي نعيشه الآن وعصر مر بنا من قبل عشناه بكل التفاصيل؛ كانت القلوب رحيمة تبشر بالخير و تطمع في رحمة الله فهى على يقين من أن رحمته سبحانه ستتسع للجميع. كانت كلماتهم الممتلئة بالرفق تؤكد على ذلك حينما يدعون أنفسهم والآخرين إلى التحلي بمكارم الأخلاق، تنثر البشرى الطيبة من حولهم، تخفف بها ألم الخائفين، وتطمئن بها قلوب التائبين، فكلنا خطاءون، ومن منا معصوم!
الكبر إزار رب العالمين وهذا معلوم، الآن يتزاحم عليه ضعفاء النفوس لمنازعته في أحقيته فيه وحده جل وعلا، إنهم يعلمون أن الله قد هدد من ستسول له نفسه في منازعته إياه، لكنهم لا يستمعون من القول أحسنه، ولا يتبعون ما أمروا به وعن حدودهم يتجاوزون، لا يطبقون من دينهم إلا ما ليس لهم به علم، يؤتونه عن جهل وعن غرور، وما هلك إبليس من قبل، إلا عندما أخذته العزة بالإثم، فامتلأت نفسه على عقبها بالكبر، بالتعالي والغرور.
كلنا نعمل على قدر استطاعتنا لكي يفيض علينا الله من رضاه، من منا يعلم تمام العلم أن ما يقدمه من عمل مائة بالمائة مقبول ومشكور؟ كلنا مذنبون وهذه فطرتنا، فالاستغفار والتوبة هما زاد رحلتنا إلى جانب نهي النفس عن البغي والعدوان على الآخرين، يجب علينا ألا نتحدث عن شيء نجهله، وأن نتذكر دائمًا أن العلم كله لله، وأننا وسط دوامة الحياة ندور وندور ولا ندري على أي عمل من أعمالنا ستقبض أرواحنا، ومن منا سوف يتقبله الله؟
استحضروا معي لحظات ضعف أو مرض مرت بنا جاءتنا لتخبرنا عن أحجامنا الحقيقية بلا مبالغة أو تقليل، لحظات كانت فيها أغلى أمانينا هى الرجوع لما كنا عليه من قبله، نتحرك بيسر، دون شعور بإرهاق أو بتعب شديد، كنا أحوج ما نكون إلى دفعة من هواء امتلأ به الكون من حولنا لكي تمر بسهولة داخل أوردة وشرايين، لعلها تمكننا من التقاط أنفاسنا والعودة للحياة الطبيعية من جديد.
ضعفنا يشفع لنا أحيانًا، فالله أعلم به وبنا، هدايتنا في يديه، قلوبنا بين كفيه يقلبها كما يشاء وكما يريد. فلنلتزم بحدودنا ولا ننشر لبعضنا البعض الدواوين ثم ننصب الموازين، ونبشر بجحيم أو نعيم مقيم.