اثر الصراع بين إثيوبيا وإريتريا علي الاستقرار بالقرن الافريقي
علي ضوء مقولات نظريتي الواقعية الهجومية والدفاعية
بحث يكتبه محمود سعد الجمل.باحث ماجستير.كلية الدراسات الأفريقية العليا.جامعة القاهرة
مقدمة
أولا: موضوع الدراسة
يعد الصراع بين كل من اثيوبيا واريتريا من الصراعات التي تطورت الي حرب شاملة بمفهومها التقليدي، راح ضحيتها قرابة 100 ألف قتيل، ومازالت تداعيات هذه الحرب محل بحث وتحقيق، وان كانت الحرب قد انتهت بشكلها التقليدي، الا ان المناوشات والاشتباكات الحدودية والمناورات السياسية والدبلوماسية مازالت مستمرة ومتواصلة.
ويمكن القول بأننا امام نزاع حدودي لم يحسم بعد، والص ارع العسكري تحول الي صراع سياسي ودبلوماسي، وبالرغم من التحول الذي طرأ على ادارة الصراع من الآليات القسرية “الهجومية” الي الآليات السلمية “الدفاعية،” لكن هناك احتمالات لإمكانية تفجر الصراع من جديد، الأمر الذي يستدعي تدخل طرف ثالث يقوم بمهمة الوساطة بين الطرفين من اجل التوصل الي تسوية سلمية وشاملة.
في مايو، 1991 نجحت قوات “الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا” بقيادة افورقي في دخول العاصمة الإريترية ” اسمره”، بعد 30 سنة من الكفاح المسلح، وبعدها بأيام قليلة فقط دخل تحالف فصائل الثوار بقيادة رئيس الوزارء الاثيوبي الراحل “ميلس زيناوي” العاصمة الاثيوبية ” اديس ابابا” لينهي حكم “مانجستو هايلي ماريام”، وبفضل التحالف الذين كان قائما برعاية دولية بين قيادتي الثوار في اريتريا واثيوبيا، جري الإتفاق علي اجراء استفتاء لأستقلال اريتريا بعد 3 سنوات من وصول الجبهتين للسلطة، وفيه اختار الناخبون الاريتريون الأستقلال في استفتاء جري تنظيمه في ابريل 1993.
وفي الثالث من شهر مايو من العام نفسه، اعترفت اثيوبيا بسيادة اريتريا واستقلالها، وتم تشكيل حكومة إريترية انتقالية لتسيير شئون البلاد، وانتخب افورقي رئيسا للدولة، الا ان الرياح لم تأت بما تشتهي سفن الحلفاء القدامى، اذ سرعان ما اندلع خلاف بين “رفقاء السلاح” افورقي وزيناوي، دفع افورقي الي طلب ترسيم الحدود، وأصدر العملة الوطنية “الناكفا” لتحل محل العملة الاثيوبية “البر” لتتصاعد الخلافات التجارية بين البلدين. لذا كان طبيعيا ان تتطور الأمور الي صراع مسلح في 6 مايو، 1998 علي امتداد الحدود بين البلدين البالغ طولها الف كيلو متر، فيما عرف باسم حرب “بادمي” اشارة الي المثلث الحدودي الذي يضم ثلاث مناطق. وفي مواجهة عسكرية دامية جرت في مايو 2000، سقط نحو 100 ألف قتيل من الجانبين الاف الجرحى والمعاقين والأسري والنازحين، انفقت خلالها أكثر من 6 مليارات دولار، قبل أن يبرم يوم 18 يونيو اتفاق مبدئي في الجزائر، تلاه اتفاق سلام بين الجانبين لأنهاء الحرب.
معلوم ان الاستقرار في المنطقة يسهل مسألة ابعاد باب المندب عن التسييس والصراع وقضايا الأمن الإقليمي والدولي، الأمر الذي دعا المملكة العربية السعودية لرعاية مؤتمر دولي في جده حضره الأمين العام للأمم المتحدة، توجت فيه المحادثات بتوقيع اتفاق سلام شامل بين الدولتين، قام علي أثره رئيس الوزراء الأثيوبي “ابي احمد” بزيارة الي اثيوبيا وتوقيع اعلان اسمره للسلام.
يبقي هنا التأكيد على الأهمية الجيوستراتيجية التي تتمتع بها منطقة القرن الافريقي حيث الممرات المائية الحيوية، فضلا عن كونها تمثل المدخل الطبيعي لأفريقيا من جهة الشرق، فقد تشابكت مصالح القوي الإقليمية والدولية وتلك المنطقة، وبالتالي لعبت تلك القوي ادوار متفاوتة في الصراعات التي دارت فيها، ومن بينها الصراع الأريتري الأثيوبي.
يبقي القول بأن هذه المشروع البحثي سوف يناقش تأثير الصراع المستمر بين اثيوبيا و اريتريا على استقرار منطقة القرن الافريقي بناء علي تحليل نظرية الواقعية، ومن خلال تناول السياق التاريخي للصراع وتقديم تحليلات لتطوراته من خلال استعراض نظريات الواقعية الهجومية والدفاعية.
ثانيا: إشكالية الدراسة
تتناول الإشكالية في هذا البحث تفاعلات الصراع بين اثيوبيا واريتريا وتأثيرها على استق ارر منطقة القرن الأفريقي، وتنقلب من العام إلى الخاص لفهم الابعاد الشاملة لهذا الصراع ، من العام:
- تحليل السياق الاقليمي: كيف يؤثر الصراع على ديناميات المنطقة بشكل عام، وكيف يمكن ان ينعكس
على العلاقات بين دول القرن الأفريقي. - تأثير الصراع علي الاستقرار الإقليمي : كيف يمكن ان يؤثر الصراع علي مسار الاستقرار في
المنطقة، وهل يتسبب في تصاعد التوترات أو تفاقم المشكلات الإقليمية. - آثار الصراع بين السكان: كيف يؤثر الصراع علي حياة السكان في المناطق المتأثرة،
سواء من ناحية الأمان أو الحياة اليومية. - تأثير الصراع على التنمية: كيف يعيق الصراع الجهود التنموية في الدول المتورطة والمناطق المحيطة؟
- الآثار الاقتصادية للصراع: كيف يؤثر الصراع على الاقتصاد.
ثالثا: تساؤلات الدراسة
التساؤل الرئيسي: كيف يؤثر الصراع بين اثيوبيا واريتريا على استق ارر منطقة القرن الأفريقي من وجهة نظر الواقعية الهجومية والدفاعية؟
الاسئلة الفرعية:
- كيف يمكن فهم سلوك اثيوبيا واريتريا في الصراع وفقا لمفاهيم نظرية الواقعية الهجومية؟
- هل تظهر الدولتان سعيا لتحقيق مصالح وطنية على حساب استقرار المنطقة؟
- كيف يمكن تقييم التفاعلات الإقليمية في إطار نظرية الواقعية الهجومية؟
- كيف يمكن تطبيق مبادئ نظرية الواقعية الدفاعية على سلوك اثيوبيا واريتريا في الصراع؟
- هل يظهر الصراع أنماطا تشير الي حرص الدول على الحفاظ على استقرار المنطقة؟
رابعا: اهمية الدراسة
الاهمية النظرية:
من الملاحظ ان الإقليم السياسي للدولة الأثيوبية يضم الكثير من الأقليات المتعددة المتشاحنة فيما بينها والمناوئة للدولة، وما يزيد من صعوبة الموقف ان تلك الأقليات تسكن أطراف الدولة ويشعرون بالصلة والتقارب مع شعوب الدول المجاورة، فأصبحت الدولة الأثيوبية في وضعها الحالي تعاني من عيوب جيوبوليتكية عديدة، تتمثل في النزعات الانفصالية المصحوبة بالانتفاضات العنيفة والتمرد المسلح. ولا أدل على ذلك من نضال اريتريا التي كانت قد انضمت الي اثيوبيا عام 1962 لمدة 30 عاما حتي تحقق لها الأستقلال في 24 مايو 1993.
الاهمية العملية:
تعتبر قضية الصراع بين اثيوبيا واريتريا، من القضايا شديدة الاهمية لتأثيرها الكبير والمباشر علي الاستقرار ليس فقط بمنطقة القرن الافريقي، بل تتعداها لتشمل دول اخري مجاورة. ولذا تقتضي الضرورة لمعاودة البحث في فترات متعاقبة ومتابعة اي تداعيات جديدة للصراع من اجل وضع حلول عملية بأمكانها تطويق اي بوادر قد تعيد هذا الملف الساخن لبؤرة الأحداث لمرة جديدة.
خامسا: منهج الدراسة
تأثير الصراع بين اثيوبيا واريتريا على الاستقرار في منطقة القرن الافريقي من خلال استعراض مفاهيم نظرية الواقعية الهجومية والدفاعية لفهم السياق النظري للص ارع.
اولا: نظرية الواقعية الهجومية
تتسم نظرية الواقعية الهجومية بأنها ترسم صورة قاتمة عن السياسات الدولية بشكل عام، حيث نجد في أبياتها مصطلحات مثل الهيمنة ومضاعفة القوة والدولة التصحيحية. وهي مصطلحات بارزة خصوصا في أعمال “جون مير شامير” رائد هذا الاتجاه، الي جانب أعمال بعض المفكرين الأخرين التي تدرج أبياتهم ضمن هذا التوجه الهجومي وهم، فريد زكريا، ايريك لايس، روبرت جيليبن، راندل شفيلر. ولذلك تسمي ايضا بالواقعية التشاؤمية والواقعية العدوانية. ويعتبر “جون مرشايمر” ارئد هذه النظرية” الواقعية الهجومية” وتستند نظريته التي يحدد من خلالها كيف تنطلق الدول في اطار تعاملاتها مع بنية النظام الدولي علي خمس فرضيات مركزية وهي: اتسام النظام الدولي بالفوضوية وامتلاك القوي العظمي القدرة علي تدمير بعضها البعض وعدم التأكد من نوايا الآخرين، وان بقاء الدولة هو الهدف الاسمي لها بالإضافة الي عقلانية الدول. وينتج عن الجمع بين هذه الفرضيات الخمسة استنتاج هام وهو ان القوي العظمي تتصرف بعدوانية تجاه بعضها البعض، حيث ان القدرات الهجومية مع عدم اليقين بشأن النوايا يثير المخاوف بشأن البقاء.
ويمكن القاء الضوء على أهم فرضيات الواقعية الهجومية وبيان مواطن اختلافها مع الواقعية الدفاعية من خلال المحاور التالية:
- نظرة الواقعيين للقوة: يري أنصار الواقعية الهجومية وعلى أرسهم البروفيسور “جون مرشايمر” ان المنطق الاستراتيجي يقتضي ان تسعي الدول الي زيادة مستوي قوتها كلما استطاعت ذلك، بل ويدعو الواقعيون الهجوميون الي الهيمنة كلما سنحت لهم الظروف بذلك، ويبرر هذا بأنه هو الأمر الوحيد الكفيل بتأمين البقاء الذي تعتبره الدول الهدف الاسمي لها، وبذلك يعتبر مقدار القوة التي تحتاجها الدول للحفاظ على أمنها لا يقف عند حد معين لدي أنصار هذا الاتجاه وان حاجة الأمن لا يمكن اشباعها.
- يري الواقعيون ان تفسير سلوك وسياسة القوي العظمي قائم على تاريخ من الصدام بين بعض الدول، وان شهوة القوة لا تتراجع حين تبتلع الدولة المزيد من القوة، وهذا يؤدي الي التنافس الدائم بين الدول العظمي. لكن “استيقن افرا” رائد دفاعي، يؤكد بأن الدول ستنعم بالاستقرار لأن القوي العظمي المرتكزة على فكرة الحرب والغزو اصبحت مكلفة جدا وغير مربحة، وبالتالي ستركن الدول الي سياسات دفاعية حذرة لكن غير عدوانية، وهذا سيقلل من احتمالات الص ارع وزيادة التعاون بين الدول.
- يري الواقعيون الهجوميون وعلى رأسهم “جون مرشايمر” ان على قادة الدول البحث عن سياسات امنية تضعف من قدرات الطرف الآخر وتزيد من قوتها النسبية تجاهه، لأنه لاحد لمدي القوة الذي ينبغي ان تمتلكه الدولة، فكلما استطاعت الدولة ان تزيد من قوتها النسبية عليها ان تفعل ذلك. في حين يري الواقعيون الدفاعيون وعلى رأسهم “كينيث والتز” انه لا ينبغي للدول ان تسعي الي تعظيم حصتها من القوة العالمية، حيث ان هذا الأمر سيؤدي الي تشكيل تحالفات مناوئة لها بغية تحقيق توازن دولي، وهو الأمر الذي يمكن مع تطوره ان ينتهي بتدمير تلك الدول الساعية لتعظيم قوتها. لذلك تحذر ال الواقعية الدفاعية من اكتساب القوة أكثر من اللازم حتى لا يختل التوازن.
وبالنظر الي ممارسات الولايات المتحدة الأمريكية في افريقيا لاسيما في مناطق نفوذ فرنسا، نجد انها قد حاولت ان تحد من النفوذ الفرنسي في المنطقة الفرانكفونية وان تكتسب نفوذا واسعا في منطقة البحيرات العظمي على حساب فرنسا.
- يري أنصار الواقعية الهجومية ان السياسات التوسعية في الاغلب تكون فوائدها المتحصلة نتيجة هذا الغزو والتوسع يفوق تكاليفها، وان الجدوى الاقتصادية لسياسات التوسع أكبر من الخسائر المتوقعة، كما يرون أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، وان الدول المهاجمة تاريخيا هي غالبا التي تحظي بالانتصار وكسب الحرب على الدول الأخرى وتحقيق أهدافها.
- ينظر الواقعيون الهجوميون الي ان حالة توازن القوة لا تمنع الحروب، كما يؤكد علي ذلك الدفاعيون، حيث ان قوي الوضع ال ارهن لا تحدث الا نادرا، ولا تستمر زمنا طويلا، حيث ان جميع الدول تسعي الي تغيير في الحالة باستم ارر، وبالتالي تدخل الدول في حروب مستمرة لتغيير توزيع القوي وفرض حالة جديدة من التوازن، ومن ثم فأن عملية توازن القوي دائما عملية متغيرة تسعي الدول الي أحداثها بشكل مستمر بحيث تحقق لها مزيدا من اكتساب القوة، وهو ما يؤدي الي تغيير وضع توازن القوي السابق وترتيب جديد للقوي بناء علي امتلاكها للقوة.
ويري ” ارندل شيفلر” ان الدول ليس شرطا ان تقوم بإنشاء تحالفات بغرض احداث حالة من التوازن في النظام الدولي عبر تحالفها مع الطرف الأضعف لتحقيق هذا التوازن، بل ان الدول تتحالف دوما مع الطرف الأقوى او الأكثر تهديدا، بدل من تشكيل تحالف لموازنته، حيث يعتبرون ان الأمن يمكن تحقيقه فقط عبر القوة وليس عبر التوازن.
- يستخدم ” مير شايمر” رائد نظرية الواقعية الهجومية، نظريته للتنبؤ بمستقبل سياسات القوي العظمي في القرن الحادي والعشرين فهو يري ان الهيكل الأساسي للنظام الدولي لم يتغير منذ نهاية الحرب الباردة، حيث لايزال يتسم بانعدام الامن والفوضى، بل على العكس فإنه يري ان المنافسة الأمنية اصبحت أكبر بكثير مما كانت عليه في التسعينات، حيث يصف التكوين الأمني الحالي في اوربا بأنه ثنائي الأقطاب، بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة كموازن لها من جهة اخري. ومع ذلك فإنه يتوقع ان تتغير موازين القوة خلال العقدين المقبلين مما سيؤدي الي حرب ومنافسة امنية شديدة، لاسيما مع الصين الصاعدة بقوة. ويستنتج مير شايمر، بأن القوي العظمي سوف تخشي بعضها البعض، وسوف تسعي باستمرار للتحقق من زيادة قوتها على حساب الدول الأخرى. لذلك يقترح على قادة الدول ان يبحثوا عن سياسات امنية تضعف من قدرات اعدائهم وتزيد من قوتهم النسبية تجاههم. كما يري ان الابت ازز والحرب هما الوسيلتان الأساسيتان اللتان تطبقهما الدول من اجل الحصول على القوة.
ويؤكد مير شامير، على ان الدول العظمي لا يمكن اجبارها على فعل شيء عبر المنظمات الدولية ولا حتى الأمم المتحدة.
- ويري الواقعيون الهجوميون ان انتهاء الثنائية القطبية سيؤدي التنافس والص ارع بين الدول الاوربية، حيث ان القوي الكبرى في اوروبا كانت في تحالف بقيادة الولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، لكن انهيار الاخير سيعيد حالة الصراع بين مكونات ذلك التحالف، أي ان الدول الأوربية ستدخل في حروب من اجل ضبط مي ازن القوي بينها، وتعتبر فترة السلم الأوربي بأنها حالة مؤقتة بسبب راعي السلم المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل كضابط للتوازنات في اوربا، وبمجرد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية ستعود الدول الاوربية الي عملية توازنات القوي فيما بينها
ويقترح الواقعيون الهجوميون على قادة الدول بأن يبحثوا عن سياسات امنية تضعف من قدرات الطرف الآخر وتزيد من قوتها النسبية تجاهه.
ثانيا: نظرية الواقعية الدفاعية
يمثل تيار الواقعية الدفاعية كل من “روبرت جيرفس، وجورج كويستر، وستيفن فان، وجاك سنايدر، وستيفن والت”. ويعتبر “كينيث والتز” هو رائد هذا الاتجاه، ويطلق على الواقعية الدفاعية ايضا مصطلح الواقعية التعاونية، ويمكن رصد أهم فرضيات الواقعية الدفاعية، وما اختلفت فيه عن الواقعية الهجومية من خلال المحاور التالية:
- يري الواقعيون الدفاعيون ان القوة التي يجب ان تسعي الدول لحيازتها هي قوة دفاعية في المقام الأول، حيث يؤكدون ان الطرف المدافع يتمتع بم ازيا قوية امام المهاجم، وان تكريس هذه القوة الدفاعية يعطيه وضع أفضل في ردع المهاجمين من الأقدام على الهجوم. ولهذا تفترض الواقعية الدفاعية بأن الدول تسعي الي الأمن أكثر من سعيها الي النفوذ، كما تفترض بأن الأمن ليس كما يدعي الهجوميين عملة نادرة، بل يمكن توفره في النظام الدولي.
- يؤكد أنصار الواقعية الدفاعية ان اسباب الصراعات هو انتهاج الدول لسياسات توسعية اذ يرون انه علي الدول التي تتجنب تلك السياسات حتي تستطيع المحافظة علي الحد الأدنى من الأمن. ويري جاك سنايدر، ان النظام الدولي يفرض على الدول ان يكون لها مصالح خارجيه محدودة وان تحتفظ بقوة عسكرية صغيرة، فالدول التي تتوسع من اجل الأمن، فأن باقي الوحدات داخل النظام الدولي تحدث توازنات لمقابلة ذلك التوسع، وغالبا ما تكون الجغرافيا والتكنولوجيا في صالح المدافعين. ولذلك يدعي فريد زكريا ان الواقعية الدفاعية لا يمكنها تفسير الكثير من السياسات العالمية لأن اتباعها يؤكدون ان الدول “المرضية” فقط هي التي تشارك في السلوك التوسعي، حيث ان الواقعية الدفاعية تفترض ان الأمن متوفر بكثرة في النظام الدولي، وان معظم الدول تتفهم ذلك. وان الدول يمكنها بسهولة الحصول علي الأمن من خلال اتباع سياسات خارجية معتدلة.
- تري الواقعية الدفاعية ان بنية النظام الدولي تشكل دافعا للحفاظ على التوازن القائم ولا تشكل دافعا للحفاظ علي التوازن القائم ولا تشكل دافعا للحصول علي مزيد من القوة. كما يؤكد الواقعيون الدفاعيون ان توازن القوة هو الضمان الذي يمنع الحروب بين الدول، حيث ان الدول تسعي الي امتلاك قوة تدافع بها عن نفسها وتصد بها الدول المعتدية والوصول الي حالة التوازن يجعل الدول تميل الي الحفاظ على حالة الوضع الراهن لذلك يؤكد أغلب علماء الواقعية الدفاعية بأنه إذا ارادت الدول الحفاظ على موقعها داخل النظام الدولي، فالسياسة المثالية هي الحفاظ على توازن القوي.
- يؤكد الواقعيون الدفاعيون وعلي أرسهم كينيث ولتز، ان النظام الدولي لا يدفع الدول ولا يوفر لها النظام المناسب، ولا يقدم المحفزات التي تؤدي الي ان تتصرف هذه الدول بشكل هجومي في العلاقات الدولية من اجل الحصول علي القوة او اكتساب المزيد منها، وانما تتصرف بشكل دفاعي وحذر، لأن خاصية الفوضي تجبر الدول علي ان تحافظ علي التوازن القائم في النظام وعدم الأقدام علي الأخلال به للمحافظة علي الوضع القائم، وبما ان الدول ستتكاتف لتعيد التوازن ضد المعتدي، فإن النظام الدولي لايقدم محف ازت للتوسع او الهجوم او الاعتداء علي الآخرين.
- يؤكد ” ستيفن فان افرا” ان الدول سوف تنعم بالاستقرار مادامت القوي الكبرى قد أدركت ان السياسات الأمنية الهجومية المرتكزة على فكرة الحرب والغزو والتوسع أصبحت مكلفة جدا وغير مناسبة للعصر الحديث، وبالتالي فأن الدول ستركن الي سياسات دفاعية حذرة، لكنها في ذات الوقت سياسات عدوانية، وهذا سيقلل كما من احتماليات الص ارع وزيادة التعاون بين الدول. يؤكد الواقعيون الدفاعيون على ان سعي بعض الدول الكبرى الي الهيمنة، هي استراتيجية غير حكيمة في طريق سعيها للحفاظ على البقاء، حيث ان السعي الي الهيمنة يمكن ان يجلب الي الدول الأخرى او الي تلك الدول نفسها صراعات خطيرة مع نظرائها، ولذلك فأن اصحاب النظرية الدفاعية يؤكدون على اهمية الاستقرار من خلال التوزيع المتوازن للقوة بين الدول، بحيث تضمن كل منها انه لن تخاطر الدول الأخرى بمهاجمتها او المساس بأمنها وبقائها.
سادسا : الدراسات السابقة
1- احمد عسكر، تكتيكات افورقي: دوافع ومألات تقارب اريتريا مع الصين-روسيا، مركز الأهرا للدراسات السياسية والاستراتيجية، 15 يونيو 2023.
المقال ذكر مجموعة من الدوافع لدي الرئيس افورقي للتقارب مع بكين وموسكو تزامنا مع المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية وتمثلت تلك الدوافع فيما يلي: كسر حالة العزلة الدولية، تحصين النظام الأريتري دوليا، مناهضة الهيمنة الأمريكية والغربية، معاقبة واشنطن على مواقفها المتشددة تجاه اسمره، حشد حلفاء دوليين لأريتريا، التحضير للقمة الروسية -الأفريقية المقبلة، استقطاب الاستثمارات الاجنبية، اعادة بناء الجيش الأريتري، التأكيد على الأهمية الاستراتيجية لأريتريا.
واجمالا يدرك الرئيس افورقي حجم المتغيرات الاستراتيجية على الساحة الدولية التي امتدت آثارها الي المشهد الافريقي، وايضا حجم الضغوط التي تواجهه على الصعيدين المحلي والدولي، ويبدو انه لم يعد بمقدوره مواجهتها بمفرده مما دفعه للبحث عن حلفاء جدد مناهضين لما اسماه بالهيمنة الغربية، اتقاء للعقوبات الأممية المحتملة واطالة امد نظامه في السلطة بإريتريا.
2- د. حمدي عبد الرحمن، اثيوبيا وحلم الوصول للبحر: مناورة سياسية أ ضرورة وجودية؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 17-1-2023.
يناقش المقال ما جاء بخطاب رئيس الوزراء الأثيوبي والذي القاه عبر أحد القنوات التلفزيونية الرسمية، وذكر فيه مسألة تأمين الوصول للبحر الأحمر وأهمية هذا المسعي لأثيوبيا. الخطاب تعرض لانتقادات واسعة بسبب افتقاره الي الوضوح والانتهازية الملحوظة واحتمال توتر العلاقات الإقليمية.
يثير خطاب ابي احمد بشأن الوصول للبحر الأحمر تساؤلات مهمة حول الدوافع والنوايا وراء هذه الحملة، وبينما يقدمها كضرورة وجودية لاقتصاد اثيوبيا وأمنها، فأن عدم الوضوح بشأن الأهداف واحتمال نشوب صراع يشير الي وضع معقد وغير مستقر.
3- عبير مجدي، كيف يهدد طموح اثيوبيا البحري الاستقرار في القرن الأفريقي، مقال، 3 نوفمبر 2023.
يتطرق المقال لمناقشة الدوافع الاثيوبية حول سعيها للحصول علي منفذ بالبحر الأحمر، الدوافع السياسية، والدوافع الاستراتيجية، والدوافع الأمنية، ويرصد مساعي ابي احمد بالتفصيل للوصول للبحر الاحمر من عام 2018 حتي عام2021 .
المقال رصد مواقف اريتريا التي اعتبرت هذه المساعي ليست ذات اهمية، كما رصد موقف جيبوتي التي ذكر متحدث رسمي لها ان هذه المزاعم تتجاوز الواقع الجغرافي والتاريخي لبلاده ولدول المنطقة. كما لاقت دعوة ابي احمد رفضا رسميا من قبل الصومال. المقال اشار الي: علي الرغم من عدم تظاهر دول الجوار بان تصريحات ابي احمد لم يكن لها اي اهمية بالنسبة لهم، وانهم قادرين علي حماية سيادة اوطانهم، فهناك مخاوف ايضا من ان يعزز ذلك المطلب حالة عدم الاستقرار في القرن الأفريقي.
4- ايهاب عياد، “الأمن الجيوسياسية للقرن الأفريقي وديناميات القوي الفاعلة” الآفاق المستقبلية لإعادة الصياغة الجيوسياسية، دراسة 2021.
هدفت الدراسة إلي الإجابة علي الإشكالية الرئيسية والتي مفادها: الي اي مدي كان لديناميات القوي الفاعلة لأول في منطقة القرن الافريقي واثرها علي الأمن الجيوسياسي للمنطقة؟ من خلال ثلاثة محاور، جاء بعنوان: الديناميات الأمنية والجيوسياسية في القرن الأفريقي، ليؤكد فرضية، ان الأقليم الذي يؤثر في القوي العالمية بما ينطوي عليه من خصائص، يكون موضع استقطاب وجذب للعديد من القوي، ليست بالضرورة متواجده في هذا الأقاليم. وجاء المحور الثاني بعنوان: القرن الافريقي في الحسابات الجيوسياسية الاقليمية والدولية، ليوضح ان تحرك القوي تجاه المنطقة، بهدف السيطرة على الموارد، وان التحركات الخليجية ترتبط بمبررات حماية المصالح الخليجية في المنطقة في ظل تحركات الاستقطاب الخليجية -الايرانية. ثم تناول المحور الثالث، الهندسة الجيوسياسية والآفاق المستقبلية للقرن الأفريقي ما بعد ازمة كورونا، وتمثلت التوصيات من الناحية البنيوية في: توسيع نطاق المنطقة وتفعيل دور الاتحاد الافريقي، وتكوين ” هيئة اقليمية لدول القرن الأفريقي” ومن الناحية القيمية: التغلب على نزاعات الهوية وصياغة مبادرة تتضمن رؤية لنظام ” اقليمي أمني لدول المنطقة”.
سابعا: تقسيم الدراسة
المبحث الاول
تطورات الصراع الاثيوبي – الاريتري
في هذا المبحث سوف نتناول ثلاثة مطالب، الأول سوف نتناول فيه جذور الصراع الاثيوبي الاريتري،
والمطلب الثاني نتناول فيه اسباب الصراع، اما المطلب الثالث فنتناول فيه تطورات الصراع.
المطلب الاول: جذور الصراع الاثيوبي -الاريتري:
ظهرت اريتريا كوحدة مستقلة بذاتها بعد ان كانت تابعة للإمبراطورية الحبشية، حين وقعت معاهدة “أديس ابابا” في سنة 1896 والتي حددت الحدود الحبشية مع اريتريا على اساس الحد الفاصل بينهما.
بعد سقوط النظام الإمبراطوري في اثيوبيا في 12 سبتمبر عام 1974 ومجيء العسكر بقيادة الجنرال “امان عندوم” ثم “منجستو هيلا مريام” ليقيموا نظاما جمهوريا ماركسيا، ساهم الاتحاد السوفيتي بدعمهم بكل ما لديه من عتاد عسكري وخبرة امنية، وبعد نجاح القوات الاثيوبية -في اطار حرب الاوجادين -بمساعدة كل من الاتحاد السوفيتي وكوبا، في ايقاف تقدم القوات الصومالية واعادتها للحدود الدولية وذلك في سنة 1978 بدات اثيوبيا تتحول باتجاه العمل علي انهاء الثورة الاريترية.
وعلي الرغم من التحديات التي واجهها الثوار الاريتريون، وعلي وجه الخصوص الانقسامات داخل فصائل المقاومة، الا ان عمليات المقاومة ظلت مستمرة حتي انهيار نظام مانجستو سنة 1991 وسيطرة تحالف فصائل الثوار بقيادة ميليس زناوي علي اديس ابابا وسيطرة جبهة تحرير الشعب الاريتري بزعامة اسياس افورقي علي العاصمة الاريترية اسمرا.
من المفارقة ان هناك من يري ان استقلال اريتريا كان خطأ لا يغتفر، ان لم يكن في نظر البعض خيانة، وهناك من يرون انه كان من المفترض علي اقل تقدير ان يتم الاتفاق على منح اثيوبيا منفذ علي البحر بمنحها ميناء عصب، بدلا من الاكتفاء فقط بتسهيلات لاستخدامه.
المطلب الثاني: اسباب الصراع الاريتري -الأثيوبي
علي الرغم من العلاقات الشخصية التاريخية بين كل من الرئيس الاريتري اسياسي افورقي ورئيس الوزراء الاثيوبي ميليس زيناوي، اللذين جمعتهما حرب واحدة اعتليا سوية فيها سدة الحكم في كلا البلدين، من وجود اكثر من اتفاقية تنظم اوجه التعاون بين البلدين. الا ان الخلافات بين البلدين سرعان مابدأت تتفاقم بفعل عوامل عدة، منها مشكلة الحدود، اذ بدأت اريتريا تطالب بترسيم الحدود بينها وبين اثيوبيا التي خططها الاستعمار الإيطالي، خاصة ان هذه المناطق تضم امتدادات سكانية لشعب اريتريا في اثيوبيا. كما كان من بين اسباب الصراع، اصدار اريتريا عملة وطنية خاصة بها لتحل محل العملة الاثيوبية التي كانت تستعملها اسمرة لدعم استقلالها الاقتصادي. فبدأت العلاقات تسوء بين البلدين، حيث رفضت اثيوبيا الموافقة على اصدار هذه العملة ورفضت مساعي إريتريا لمساواة قوتها الشرائية بالعملة الأثيوبية بحجة اختلاف السياسات المالية والاقتصادية المتبعة بين البلدين. مع تصاعد الخلافات والتباينات بين البلدين، باتت اثيوبيا تريد اسقاط نظام افورقي وازاحته من الوجود لأنه في نظرها هو المسئول عن تفجير الأزمات في المنطقة، وانه يريد ان يفرض نفسه: كسوبرمان في المنطقة عن طريق الضغط على جيرانه بالقوة. وعلي صعيد طموحات القيادات نجد ان كلا من اثيوبيا واريتريا، قد حرص علي تقديم نفسه كفاعل اقليمي حيوي بالمنطقة يجب الاعتماد عليه فيما يتصل بأي من الترتيبات المزمع اتخاذها، واستندت اثيوبيا في ذلك علي ميراثها من العلاقات الخارجية الدولية الإقليمية وتراثها التاريخي. في المقابل طرحت اريتريا نفسها كفاعل اقليمي يجب الاعتداد به انطلاقا من موقعها الاستراتيجي وقدراتها العسكرية والتنظيمية. على ذلك يمكن القول ان الصراع بين اثيوبيا واريتريا ليس صراع حدود بل هو صراع وجود، لأن كل منهما يستهدف وجود الآخر، ومما عقد هذا الصراع، وجود أطراف دولية واقليمية تغذي النوازع والتطلعات لدي الطرفين.
المطلب الثالث: تطو ارت الص ارع الاريتري -الاثيوبي
في 18 يونيو 2000، تم توقيع اتفاقية الجزائر لوقف الأعمال العدائية والانسحاب من قبل قوات البلدين الي ما قبل حدود 6 مايو 1998 الي ان يكون عمق الانسحاب الاريتري 25كم، واحالة النزاع الي التحكيم وانشئت مفوضية لترسيم الحدود بين البلدين يكون ق اررها نهائيا وملزما للجانبين، بعد صدور ق ارر المفوضية في ابريل 2002 بأحقية اريتريا في الأراضي المتنازع عليها، اعترضت اثيوبيا سميا في 19 سبتمبر من نفس العام، واستبعدت اثيوبيا ان يكون هناك سلام مع اريتريا مالم تحصل أديس ابابا على منفذ بحري علي البحر الأحمر.
استندت اثيوبيا في رفضها لهذا القرار إلى ما يأتي:
- ضمان موارد التسليح إذا تطور الأمر الي حرب جديدة مع اريتريا من حليفتيها الاستراتيجيتين، امريكا واسرائيل، خاصة في ضوء العلاقة المميزة التي تربطها بهما.
- انشائها لمحور صنعاء الذي يضم بالإضافة اليها، كلا من اليمن والسودان، وقد تكون خصيصا لمواجهة اريتريا والتي بينها خلافات حاده مع كل دول المحور.
- علاقة اثيوبيا التاريخية والمتينة مع بعض قوي المعارضة الاريترية.
غير ان تحولا تكتيكيا طرأ على السياسة الاثيوبية تجاه هذه القضية، تمثل في اعلان رئيس الوزراء الاثيوبي ميليس زيناوي في 25 نوفمبر 2004 مبادرة من أربع نقاط لاحتواء الأزمة مع اريتريا وهم، القبول المبدئي بقرار مفوضية الحدود. التزام الاسلوب السلمي لحل الخلافات. ضرورة حل الخلافات عبر الحوار المباشر. تراجع اثيوبيا عن قرارها الرافض بدفع التزاماتها المالية لمفوضية الحدود، وقررت استئناف تعاملها مع المفوضية عبر دفع حصتها المالية وارسال الضباط المعنيين الي المفوضية لأبداء حسن النية والرغبة في اغلاق ملف النزاع الحدودي.
خلاصة القول ان الصراع الدائر بين كل من اثيوبيا واريتريا يعد من الصراعات بالغة التعقيد وذلك بفعل تطورها الي حرب شاملة على وفق المفهوم التقليدي، وان كانت الحرب قد انتهت، فالمناوشات والاشتباكات السياسية والمناورات الدبلوماسية مازالت مستمرة ومتواصلة. وإذا كانت المواجهات المسلحة قد توقفت، فإن الصراع السياسي مازال قائما والمشاكل العالقة بين البلدين لم يتم تسويتها بعد بشكل نهائي، وعلى ذلك فأن احتمالية تفجر الص ارع من جديد ما ازلت قائمة، الأمر الذي يستدعي ان يكون هناك طرف ثالث أو أكثر يقوم بمهمة الوساطة بين الطرفين المتصارعين بغية التوصل الي التسوية السلمية الشاملة.
المبحث الثاني: دور القوي والمنظمات الإقليمية والدولية في الصراع
نظرا للأهمية الجيوست ارتيجية التي تتمتع بها منطقة القرن الافريقي، حيث الممرات المائية الحيوية، فضلا عن كونها تمثل المدخل الطبيعي لأفريقيا من جهة الشرق، فقد تشابكت مصالح القوي الإقليمية والدولية في تلك المنطقة، وبالتالي لعبت تلك القوي ادوار متفاوتة في الص ارعات التي دارت فيها، ومن ذلك الص ارع الإريتري -الاثيوبي، على ذلك سوف نتناول مواقف وأدوار تلك القوي انطلاقا وتطبيقا لنظرية الواقعية الهجومية والدفاعية.
المطلب الأول: الأطراف الإقليمية:
اولا -الدول المجاورة:
1- السودان:
لما كانت السودان من الدول المجاورة للبلدين المتصارعين “اثيوبيا واريتريا” ونظرا لوجود تداخلات سكانية وقبلية بينها وبين هذين البلدين، كما أن كلا البلدين كانا يدعمان قوي المعارضة ضد الحكومة السودانية، على الرغم من اختلاف منطلقات كل منهما، كما أعلنا عن خشيتهما من محاولات السودان في التسعينات تصدير الأصولية الإسلامية إليهما ودعمه لقوي المعارضة بالدولتين.
وكانت الأوضاع الإقليمية لدول الجوار قد ساهمت في إتاحة الفرصة للسودان لإمكانية لعب دور إقليمي جديد قد يكون بديلا للدور الاثيوبي، الذي كان مهيمنا الي حد ما علي منطقة القرن الأفريقي خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وان كان هذا الدور قد ت ارجع مع اندلاع الحرب الحدودية بين الجانبين سنة 1998 وعدم تسوية النزاع الحدودي حتي الآن.
وقد ساهمت هذه الحرب في سعي كل من الجارتين لكسب ود السودان، لاحتياج كل من اديس ابابا واسمره اليها، فأثيوبيا كدولة حبيسة، صارت تبحث عن مواني أخري بخلاف الموانئ الاريترية التي تم اغلاقها في وجهها، وكان البديل الجيبوتي غير كاف بسبب ارتفاع تكلفة النقل والشحن من ناحية وصغر الحجم من ناحية أخري، ومن ثم كان البديل يتمثل في محاولة تحسين العلاقات مع السودان واستغلاله ميناء “بورسودان” في هذا الشأن.
وبالنسبة لأثيوبيا، شهدت العلاقات بينها وبين السودان تحسنا ملحوظا، خاصة بعد توقيع العديد من الاتفاقيات الثنائية المشتركة على كل المستويات، الأمنية والاقتصادية والسياسية، فضلا عن ان البلدين كانا قد شكلا مع اليمن تحالفا اقليميا في اكتوبر 2002 باسم ” تجمع صنعاء” والذي يعد مظهرا من مظاهر التحالفات السياسية في القرن الافريقي، وتعتبره اريتريا تحالفا موجها ضدها بالتحديد بفعل الصراعات الناشبة بينها وبين هذه الأنظمة الثلاثة من جهة أخري.
أما بالنسبة لأريتريا، فعلي الرغم من الدعم الكبير الذي قدمته السودان للثوار الأريترين في مرحلة المقاومة حتي نيلهم الاستقلال، الا ان العلاقات بين البلدين شهدت تدهورا ملحوظا منذ استقلال اريتريا، لاسيما بعد تزايد الاتهامات المتبادلة بين كل منهما ” دعم السودان لحركة الجهاد الإسلامي في إريتريا، وفي المقابل دعم اسمرة للتجمع الوطني السوداني” والتي وصلت ذروتها الي قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما سنة 1994 فضلا عن استم ارر اتهامات السودان لدور اريتريا القوي في مشكلات السودان في الشرق، بما يتجاوز حدود الدعم المعنوي لقبائل البجا والاسود الحرة، مع تسرب معلومات تؤكد ان اسمره اضحت اهم قنوات توصيل السلاح الاس ارئيلي لقوي المعارضة في دارفور، الي جانب استمرار العلاقة المتميزة بين اسمره وغالبية قيادات التجمع الوطني السوداني المعارض، والتي مكثت طوال الفترة الماضية في الأراضي الاريترية.
يبقي القول بأن الدور السوداني في إطار نظريتي الواقعية الهجومية والدفاعية، سوف يظل مرهونا بالتقييم الأمريكي والي اي مدي تتوافق الخرطوم مع خطط واشنطن في التعامل مع الإسلاميين بالمنطقة، كما ان اي دور فاعل للسودان في إطار هذين النظريتين مرهون بمدي قبول القوي الإقليمية الأخرى له، سواء القوي الإقليمية التقليدية “اثيوبيا” او القوي التي بدا يتنامى طموحها للعب دور اقليمي فاعل “ليبيا.”
2- اليمن:
لليمن علاقات جيده بأثيوبيا على المستوي الأمني، وهو ما تفسره اريتريا بالتحالف ضدها، بعد ما كانت اليمن في مقدمة الدول الداعمة للمقاومة الاريترية، ولذا كان رد الفعل الاريتري على تجمع صنعاء، الذي يجمع كل من اثيوبيا واليمن والسودان. كما أن سجل العلاقات اليمنية الاريترية ،شهد تصدعات بعد احتلال اريتريا لجزر حنيش اليمنية ،وهي التي آلت إليه اليمن بموجب حكم دولي .وبالرغم من بعض التحسن الذي طرأ علي علاقة الدولتين ،الا أن الشكوك والمخاوف والاتهامات المتبادلة بينهما لاتزال قائمة ، لأن اريتريا تتهم اليمن بالتأمر ضدها من خلال التحالف مع إثيوبيا ، ومن جانبها تبدي اليمن قلقها الشديد من تطورات علاقة إسرائيل بدولة اريتريا ومحاولة بسط نفوذها علي مدخل البحر الأحمر ،ومما يعزز هذا القلق إقامة قاعدة أمريكية في ميناء مصوع مما يمكنها من السيطرة علي مضيق باب المندب ،وبالتالي تتحكم الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل في المضايق العربية .
3- جيبوتي:
في إطار التطبيق العملي لنظريتي الواقعية والدفاعية، تعتبر جيبوتي مجرد لاعب صغير محدود التأثير، بداية من فشل مبادرة الرئيس حسن جوليد الذي قدمها في مايو 1998 عندما كان يرأس دورة منظمة حكومات شرق افريقيا ومكافحة التصحر لاحتواء الخلاف بين الدولتين، إذ أن اريتريا تتهم جيبوتي بالانحياز لصالح اثيوبيا، مما جعل الوساطة الجيبوتية غير ذات جدوى. من جهتها تتهم جيبوتي اريتريا بدعم متمردي الجبهة الثورية الموحدة ضدها، وبأن لها مطامع في الأراضي الجيبوتية.
4- الصومال:
تعد الصومال ساحة للص ارع الاثيوبي الاريتري غير المباشر، فالصومال الذي خلا من وجود
حكومة موحدة منذ عام 1991 ظل واقعا بين سندان حكومة مؤقتة ضعيفة تدعمها اثيوبيا وبين مطرقة
المحاكم الإسلامية القوية التي فرضت سيطرتها على العاصمة مقديشو. وتتهم اثيوبيا بالتدخل في شؤون الصومال الداخلية وتتلقي بدورها دعما من قبل اريتريا ورئيسها المسيحي افورقي، لذا كان التدخل الاثيوبي في الصومال كان بحجة مطاردة قوي المحاكم الإسلامية التي أعدها بمثابة تهديد لأمنها وسيادتها، وهو ما استغلته اريتريا لكي تقدم أقصي ما يمكن تقديمه للمحاكمة الإسلامية لمواجهة القوات الإثيوبية.
ثانيا -دور مصر وإسرائيل.
1- مصر:
لما كان القرن الافريقي يعد بمثابة الح ازم الجنوبي للأمن القومي المصري، ذلك أن هذا الأمن
يدور حول قضية أمن البحر الأحمر، وقضية حماية النيل، وفي هذا الإطار وفور نشوب الصراع بين كل من اثيوبيا وإريتريا، وجهت مصر دعوة إليهما لضرورة استبعاد الخيار العسكري واللجوء الي الوسائل السلمية لتسوية الصراع، إلا أن الدور المصري انصب في اتجاه دعم الجهود المبذولة عن طريق منظمة الوحدة الأفريقية سابقا، الاتحاد الافريقي حاليا، ومع ذلك لم يتم طرح مبادرة مصرية منفردة للوساطة في حل الصراع. وتبدو مصر بعيده إلى درجة كبيرة عن أجواء نظريتي الواقعية الهجومية والدفاعية فيما يخص هذا الصراع بين البلدين لانشغالها بقضايا محلية واخري قومية مثل القضية الفلسطينية وتداعياتها اليومية.
ثالثا -موقف منظمة الوحدة الأفريقية-الاتحاد الافريقي حاليا:
بدأت منظمة الوحدة الأفريقية بإدانة استعمال الخيار العسكري في حل النزاع، ودعت الطرفين الي اللجوء إلى التسوية السلمية، وقد قامت المنظمة بجهود الوساطة بين الطرفين المتصارعين في المرحلة الأولى للصراع في مايو سنة 1998 لكن اثيوبيا رفضت وساطة المنظمة، ومن ثم تبني مجلس وزراء خارجية دول المنظمة في يونيو، اقتراحا مصريا يقضي بوقف الأعمال العدائية بين الدولتين فورا. ومن ثم القبول بالمبادرة الأمريكية -الرواندية، اساسا للمفاوضات، وقد رحبت اريتريا بتلك الجهود، لكن اثيوبيا واصلت رفضها بفعل رفض اريتريا سحب قواتها من أراضيها، وبذلك فشلت وساطة المنظمة آنذاك.
مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الافريقي، اقتصر دوره على الجانب المتعلق بتسوية الصراعات الداخلية في البلاد الأفريقية دون التطرق الي النزاعات الحدودية، مثل النزاع الحدودي الإثيوبي -الاريتري. كما أن عملية السلام التي رفعتها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بين اثيوبيا وإريتريا، فتعرضت هي الأخرى لنكسة، حين رفضت اثيوبيا حكم اللجنة الدولية ونشرت عدة آلاف من الجنود الاضافيين مع اريتريا عام 2003.
المطلب الثاني -دور الأطراف الدولية في الصراع
اولا -الموقف الأمريكي:
جاء نشوب الحرب بين اثيوبيا وإريتريا في أعقاب الزيارة الفريدة التي قام بها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في مارس 1998 للقارة واجتماعه مع رؤساء دول وحكومات شرق ووسط وجنوب القارة ، وهي الزيارة التي استهدفت ترتيب الأوضاع في منطقة شرق افريقيا وتوزيع الأدوار علي اللاعبين الأساسيين وفي مقدمتهم اثيوبيا وإريتريا ، لذا مثلت الحرب الحدودية بين هاتين الدولتين خروجا علي مقررات السياسة الأمريكية بالمنطقة ودفعت للتساؤل عن أسباب الحرب ، والواقع أنه بعيدا عن الحجج القانونية ونظريات الواقعية الهجومية والدفاعية ،فأن الميراث التاريخي للعلاقات بين البلدين والطموحات الآنية للقيادات لعبت دورا حيويا في تأجيج الصراع واستمراره ،ثم انفجاره علي النحو الذي شهدته المنطقة:
وهناك من يؤكد على دور الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وأهمية اثيوبيا بالنسبة لها، وبالتالي فأن حل الصراع في يد الولايات المتحدة.
ولكن المفارقة في هذا الصراع أن الدور الأمريكي ليس واضحا ،وذلك بفعل أن كلا الطرفين يحاولان استمالة واشنطن الي جانبهما، حيث كانت اريتريا تراهن علي واشنطن ، لكن يبدو أن واشنطن فضلت عدم التعويل علي اريتريا ،خاصة في ظل سياسات النظام المتأزمة مع دول الجوار ،وانصرف اهتمامها في المقابل الي جيبوتي المجاورة ،وبالمقابل لم تتمكن من نيل ثقة واشنطن الكاملة ،الأمر الذي يرجح بقاء الأخيرة علي مسافة واحدة من طرفي الص ارع مع التعويل علي أهمية أط ارف إقليمية أخري لضمان مصالحها في المنطقة .ولكن ذلك لم يمنع من بذل الولايات المتحدة الأمريكية جهودا لا يستهان بها توجت بتقديم مبادرة مشتركة مع رواندا التي سعت بدورها للقيام بدور الوسيط ،وكان ذلك في الأول من يونيو 1998 وقد تضمنت تلك المبادرة نقاط اربع وهي:
- انسحاب القوات الاريترية من الأراضي المتنازع عليها
- نزع سلاح المناطق المتنازع عليها.
- اخضاع تلك المناطق لمراقبة دولية.
- بدء مفاوضات ترسيم الحدود بين الطرفين المتصارعين.
وفي حقيقة الأمر مثلت هذه المبادرة احتواء لمطالب الطرفين المتصارعين، وهو ما دفع الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية لتأييد هذه المبادرة.
ثانيا -الموقف الأوربي:
أصدر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بيانا في 8 يونيو 1998 ادانوا فيه اللجوء إلى الوسائل العسكرية لحل النزاع، كما دعا البيان لوقف إطلاق النار والتفاوض لتسوية هذا الصراع، وقد سعت ايطاليا في جهود الوساطة بين الجانبين المتصارعين في ذلك الوقت، في 16 يونيو 1998 أعرب زعماء الاتحاد الأوربي عن تأييدهم للمبادرة الأميركية -الرواندية، لتكون اساسا لإنهاء الصراع.
ثالثا -موقف الأمم المتحدة:
حاولت الأمم المتحدة القيام بوساطة بين الدولتين عن طريق أمينها العام السابق -كوفي أنان- الا أن اريتريا رفضت تدخل المنظمة الدولية في الصراع، واعلنت أن اللجوء إلى المنظمة مضيعة للوقت، وفي المقابل رحبت اثيوبيا بوساطة المنظمة الدولية، وظلت الأخيرة تدعم محاولات الوساطة التي قامت بها الأطراف المختلفة الدولية والإقليمية، وعلي وجه الخصوص المبادرة الامريكية -الرواندية، فضلا عن ترحيبها بجهود منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك، ومن ثم جهود الاتحاد الافريقي.
الخاتمة
علي الرغم من توقف العمليات العسكرية الشاملة ، ما يزال الصراع الاثيوبي -الاريتري ، قابلا للانفجار في أية لحظة ، وذلك بفعل عدم التوصل إلي التسوية السلمية الشاملة والدائمة للمشاكل العالقة بين البلدين ،شأنه في ذلك معظم الص ارعات الدائرة في القارة السم ارء ، والاشكالية هنا تكمن في عجز القوي والمنظمات الإقليمية والدولية ،التي تشابك مصالحها في هذه المنطقة الحيوية من العالم .من جانب آخر فأن تفاقم المشاكل وتقادم الأزمات في المنطقة أربك الوسطاء وجعلهم يولون وجوهم شطر تلك المشاكل والأزمات بعيدا عن الاهتمام بهذا الصراع الذي كان قد ذهب ضحيته مئات الآلاف من القتلى والجرحى والنازحين ، وإذا ما تجدد هذا الصراع ،وهو احتمال قائم جدا بفعل استمرار الاتهامات والمناورات والمناوشات بين الطرفين المتصارعين فستجدد معه المعاناة ،لذا ينبغي أن تتضافر الجهود الإقليمية والدولية بغية تكثيف الاتصالات بين الطرفين المتصارعين لتقريب وجهات النظر والاحتكام الي طاولة الحوار والمفاوضات سعيا للتوصل الي توقيع اتفاق سلام شامل ودائم يرضي الطرفين المتصارعين ويؤسس لإقامة علاقات حسن جوار وتحقيق المصالح المشتركة.
المراجع
- السيد رجب حراز ،الاصول التاريخية للمشكلة الاريترية،القاهرة ،معهد البحوث والدراسات العربية .1977.
- حلمي شعراوي ،الثورة الاريترية وحق المصير ،مجلة السياسة الدولية ،العدد50 ،1977.
- حسن الشافعي ،النزاع الحدودي بين اريتريا -اثيوبيا في ميدان العلاقات الإقليمية الدولية ،السياسة الدولية ،يناير 2003.
- حمدي عبدالرحمن حسن ،الصراع في القرن الافريقي وانعكاساته علي الأمن القومي العربي ،مجلة المستقبل العربي ،العدد 157،بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية ،مارس 1992.
- جوده حسنين جوده ، قارة أفريقيا ،دراسة في الجغرافيا الإقليمية ،الاسكندرية ،دار المعرفة الجامعية ،1996.
- جلال الدين محمد صالح ،القرن الافريقي ،اهميته الاستراتيجية وصراعاته الداخلية ،مجلة قراءات افريقية ،العدد الأول ،2011.
- عارف عبدالقادر سعيد ،سياسة اليمن الخارجية تجاه قضايا منطقة القرن الأفريقي ،رسالة ماجستير ،جامعة القاهرة ،كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ،2002.
- عبدالملك عوده ،اثيوبيا وإريتريا – كيف تتحرك الأحداث ،مجلة رسالة افريقيا ،العدد العاشر ،اكتوبر 1975، القاهرة .
- مختار شعيب ، الصراع الاثيوبي -الاريتري علي الحدود ، السياسة الدولية ،العدد 133، يوليو 1998.
- محمد ابوالفضل ،الخلاف بين اريتريا وإثيوبيا في ميدان العلاقات الإقليمية الدولية ،السياسة الدولية ،يناير 2003 .
- مجدي جلال ،دور مجلس السلم والأمن الأفريقي في تعزيز السلم والأمن والاستقرار في افريقيا ،مجلة آفاق افريقية ،القاهرة ،العدد 21 -مارس ،2006.